من الصعوبات التي اواجهها في هذه المدونة محاولتي تلخيص واختصار مفاهيم وأفكار بالغة التعقيد والحساسية في بضع مقالات وجُمل قصيرة، وبالمقابل هناك من يتعمق ويبذل جُلّ جهده ووقته لينتهي بكتاب كامل عنها على الأقل، وهذا ما يشعرني بتأنيب الضمير والتقصير، فما اكتبه هنا لا يكفي لفهم وإيصال معلومة بعينها، لذلك ارجو من جميع القراء أن لا يكتفوا في بحثهم ومعتقداتهم عند أي حد أو معلومة؛ بل ابحروا وفككّوا دائماً سواء داخل أنفسكم أو خارجها في جميع المصادر المرتبطة، فكل ما اقوم بنشره هنا هو مجرد لمحة أو مراجعة لهذه الأفكار من منظوري الشخصي، ثم كتشويق للقارئ ليلتفت لها ويبحث أكثر.
للتوضيح: ما أقوم بتحليله وتنظيره في هذه المقالات هو غالباً من منظور روحي وفردي، ولا يستند فقط على الأدوات المعتادة والمتعارف عليها علمياً في القراءة والشرح المعرفي.
هناك العديد من النظريات التي تفسِّر وتقرأ التاريخ والحضارة الإنسانية وما يُشكّلها أو يدفعها خلال الزمن، البعض يعيد ذلك لغرائز بدائية في الإنسان أو لطبيعة جغرافية، والبعض الآخر لتراكمات من حضارات مختلفة على المدى البعيد والتي قد تُنتج شيء معين في وقت ومكانٍ ما، لكن في وسط هذا كله هناك نظرية مغمورة عمّن يشكّل حقاً الوعي والحضارة في عهود وفترات بعينها. في كل فترة (أو دورة) من التاريخ يظهر رجل وفي حوزته “كلمة”، بمثابة معادلة أو رمز يمثل الحقيقة حينها، ونلاحظ أن بعد هذا الإعلان يبدأ فعلاً تكوّن الأتباع والديانة والتغير للوعي الجماعي والعرقي والذي بدوره يغير المحيط ثم الحضارة بأكملها، فما هي هذه الكلمات السحرية؟ الأكيد أنها تأتي من مصدر متعالي وغير خاضع لأبعادنا المحدودة بل مطوّعاً وموجهاً لها، وقد يلاحظ البعض أن بعد فترة من الزمن يبدأ تأثيرها بالإنعكاس والإنحلال، فيبقى المصدر المكتوب بلا تشويه نسبياً على الأقل. أُم، الله، آناتا، جيهوڤا، جميعها كلمات يدّعي اصحابها أنها اسم أو تمثيل لحقيقة هذا الكون وخالقه، وهي ما أؤمن أنها السبب الرئيسي لتحريك وتشكيل الحضارات والوعي الإنساني قبل أي شيء آخر، ومن المؤسف أن الأغلبية يعتقدون العكس في وقتنا الحالي.
في بدايات القرن المنصرم تلقينا آخر كلمة من هذا المصدر، وهي “ثيليما” (إرادة بالإغريقية)، والتي تجسدت ونُطقت من خلال آليستر كرولي في كتاب القانون، أو كما يحب أن يشير لنفسه بالوحش الأعظم، نسبةً لوحش القيامة من رؤيا يوحنا في الكتاب المقدّس، وهنا نأتي لأحد أكثر المواضيع حساسية وأهمية حول هذا الشخص ونبوءته. فإرتباطه بهذه الصورة يحتوي في طياته المفاتيح والأسرار لفهم رسالته والحقبة التي نمر بها الآن، فهذا الارتباط السلبي والمنفر ظاهرياً ليس إلا أحد الطرق التي تعمدها لنشر وإيصال تعاليمه لفئات معينة، فمن لديه الإرادة والتعطش الكافي ليواجه ويتجاوز هذه الصور (الوحش أو التنين) من خلال تحديات واختبارات نصوصه ومحتواها؛ سيكشف لاحقاً عن جوهرها، خلف كل ما قد يظهر لنا بأنه شيطاني وسلبي. وهذه الصورة في الواقع تمويهية أكثر منها حرفية، فلا يخفى على الأغلبية أن الكتاب المقدّس واتباع الناصري كانوا يُعتبرون مهرطقين وخارجين عن ملة وناموس موسى حينها، فالناصري أيضاً كان من منظورهم دجالاً ويعمل ضد مسيح بني إسرائيل المنتظر، وهذا ما يحدث الآن مع كرولي وغيره، فأفعى الشجرة وحمامة الروح القدس مُكملان لبعضهما البعض وإن ظهروا لنا بأنهم متنافرين، وهذا ما فهمه مدونو الكتاب المقدّس وحاولوا إيصاله مجازاً، ألم يقولوا حين قدوم مملكة الربّ “سيلعب الأطفال مع الأفاعي”؟ الأفعى أيضاً رمز للحكمة والحياة في التعاليم الباطنية للكثير من الأديان.
آليستر كرولي وكلمته هما التنين الذي سيحرك ويزلزل أعماق وعينا البشري ليتمخض عن الكلمة والعقيدة التي ستدخلنا العهد الجديد ونوره، أو “القدس الجديدة” كما يسميها بعض المسيحيون وتنبأت بها العديد من الحضارات والأديان بأشكال ومسميات أخرى، لذلك يُسمى بوحش القيامة، لأنه يحطم الناموس القديم والميت ليأتي بالجديد، وهو ما أؤمن بأنه جزء من قانون كوني وسرمدي، والذي من خلال دوراته الخلاّقة والمدمرة نغتني وننتعش ونتجدد، نقيض العقائد الثابتة والميتة التي تقاوم على مدى التاريخ وتعتقد بصمودها وإزدياد قيمتها، بينما في الواقع هي جثة متعفنة تحاول وتتوهم الحراك فقط.
قسّم السيد كرولي الزمن كدورات أو عهود متتابعة (ثلاثة)، وهو معتقد حاضر في الكثير من الأديان القديمة، والتي تشير كلها وتتفق أخيراً بأن الزمن لايسير في خط مستقيم للمجهول إنما حَلَقي ومحكوم تحت قوى معينة، معيداً لنفسه. الفارق في هذه الحالة هو تصنيف كرولي لهذه القوى، فنسب كلاً منها لثلاثة من الآلهة المصرية، وهي: ايزس (الأمومة، الطبيعة، الأرض)، ثم اوزيرس (الأبوية، الصراع، الحضارة) وأخيراً حورس (الطفولة، الحرية، التجدد)، وهي الدورة أو العهد الذي نعيشه الآن، وهذا بالتأكيد تعريف تجريدي لأبعد درجة ممكنة، فينضوي تحت هذه القوى عدد لانهائي من التأثيرات والاحتمالات التي تتجاوز ما قمت بذكره، إلا أن ما يميزها الثبات والعودة لصورة الأم والأب والابن، وهو ما يعزز اقتناعي بها، كونهم المحرك والمصدر الأول لوجودنا الفيزيائي. جدير بالذكر أيضاً أن هذا التصنيف مقارب لنظرية أحد أهم مؤسسين علم النفس التحليلي وهو كارل يونغ ونظريته للأنماط البدائية أو الأصلية التي تشكل وتأثر على تكوين الذات والهوية، والتي ربطها بالآلهة الأولمبية.
ما الذي يميز طبيعة ورسالة هذه الكلمة وعهدها إذن؟ من الناحية العملية تستند وتتمحور أولاً حول ممارسة الفرد وتجسيده لإرادته الحقيقية كما حاولت شرحه في مقالتي السابقة، والتي أهم ما سينتج عنها هو تجلّي النور والحب والحياة والحرية (بأكثر صورة روحية ممكنة) في صاحبها، نقيض العبودية والإستسلام والإنكسار، وهو ما تم تلقين وتجنيد البشرية عليه لأكثر من ألفين عام مظلمة، في الدين والسياسة تحديداً. فكل من يتلقى ويتبع هذه الكلمة الجديدة يصبح ملكاً لذاته أولاً ويرى في الآخر ذات الشيء، ويحاول أن يساعد من يعتقد العكس، فهي ارستقراطية روحية/عقلية بحتة، وبذلك حتى معرفة الفرد للخالق أو مصدر الكون يجب أن تعزز وتزيد هذا الشيء، لا الضعف والصغِر وإنعدام القيمة، بل جميعنا مكملين ومشتركين في هذه المأدبة الإلهية، “كل رجل وامرأة نجم” كما يقول كتاب القانون، والجميع اجزاء من عقد سماوي واحد كما نراه ويزيّن هذا الفضاء وأعماقه، الكل أشعة من نور شمس واحدة.
من أصعب دروس هذا العهد والتي لازلنا نتعلم منها، هو تحول التركيز من الجماعة إلى الفرد. اصبح الإنسان والفرد هو نقطة الحساب والمرجع لكل شيء، حتى الفلسفة والتقنية في القرون الأخيرة جميعها تخدم هذه الفكرة، وهو ما ترتب عليه الإيجابي والسلبي معاً، والذي من منظوري ليس إلا اعراضاً جانبية بسبب النقلة بحد ذاتها، والتي كانت في مخاض منذ نهايات عصر النهضة مروراً بالتنوير والثورات إلى ذروتها في بدايات القرن الماضي مع تلقي كتاب القانون. فكون الفرد في وقتنا هذا يحظى بأولوية ومزايا لم تتوفر له سابقاً لا يعني الشجب التام والانفصال عن الجماعة والمنظومة الهرمية التي هو جزء منها وتحتويه، فيجب على الفرد والجماعة أن يكملا ويخدما بعضهم البعض، ومن رأيي أهم وأفضل ما توصّلنا له في هذه الموجة هو انتهاء الوصاية والوساطة الروحية، فكل فرد هو مصدر ومرجع ذاته في علاقته مع هذا الكون وما ورائه، لا شيخ أو قسّ له دخل في ذلك مباشرةً، ووظيفتهم يجب ألاّ تتخظى الإلهام والتوجيه في أفضل الحالات لمن يتوافق معهم، لا السيطرة والإكراه والتحكم، فمن لديه هذه المَلكة حقاً لن يحتاج أن يسوقها أو يستغلها، بل ستظهر وتقوم بعملها تلقائياً.
يتميّز هذا العهد أيضاً بإنعتاق الابن من سطوة الوالدين، والمقصود هنا من الناحية النفسية أولاً، فهو عهد الطفل حورس، الروح الطليقة التي لايحدها أفق، فحاضرنا لا يحكمه أو يشكله ماضي وظل أجدادنا فقط، قد يلهمنا ونكرّمه بما يتوافق مع إرادتنا، لكن لن يجعلنا مجرد نسخاً أخرى لهم، وهذا ما لايستطيع انكاره أي شخص يلاحظ طبيعة وتأثير التربية وبيئة المنزل على المدى البعيد، والتي تتسب غالباً في أن يرث الطفل السمات السلبية من والديه قبل الإيجابية، وهذا ليس إعلاناً للتمرد والثورة العمياء كما يفعل الكثير من المراهقين، بل هي عملية داخلية صعبة ودقيقة للإنفصال يجب أن يعيشها أي فرد مع تقدمه بالعمر وتطوره، فالأب والأم مرتبطين بأطفالهم على مستوى أعمق من اللاوعي حتى، وهو ارتباط غريزي بحت، وهذا ما يجب أن نقاومه ونهذبه.
يعلمنا كتاب القانون أيضاً أن لا نرفض ونحارب المادة بعينها، وهو عيب أغلب أديان العهود السابقة. عهد الطفل حورس وكما يذكر كتابه لا يرفض المادة بل يطمح أن يتحدّ معها، لا يراها شرّاً وعائقاً عن الملكوت، بل انعكاس أو حجاب رقيق للحقيقة، نحن نحب ونقدّس المادة وما تجلبه من سعادة وانتشاء واستقرار، فهي الوعاء الذي يحتوي وتعبر من خلاله الروح طبيعتها، كتاب القانون مليء بالآيات التي تحض على تقديس اللذة والجمال وماهو محسوس، فهي طور وشكل آخر للحقيقة، ورفضها والتقليل منها هو المحرم والمكروه بحد ذاته، ومن يتبنى العقيدة المناقضة لذلك يتضح عليهم في أفعالهم ومظهرهم الشاحب الذي يكره ويُنكر الحياة.
وأخيراً، ما يهم هو البعد الروحي لهذه المصطلحات والكلمات، فحينما أشير لأشياء بديهية كالفرد والحرية والحب، لا اقصد بالضرورة ما تعنيه هذه الكلمات حين تناقلها في أحاديثنا واحتياجاتنا اليومية فقط، بل في سياق لفلسفي وعلمي، فماذا تعني هذه الكلمات حينما نقوم بربطها في الخالق وغير ماهو محسوس مثلاً؟ الحرية التي اعنيها هي حرية داخلية أولاً، حرية من أسوأ الصفات والحدود والمعتقدات التي في داخلنا وتعيقنا، والتي جميعها ستحل وتؤثر على المادي حينما نتوجه لها بهذه الطريقة. انصح واحرّص الجميع أن يقرؤا ويتأملوا هذه المفاهيم من منظور فكري بحت كما شرحها كرولي في نصه الذي شاركت رابطه في الأعلى. وأخيراً، نحن في فجر كوني جديد، فلا تشيحوا بنظركم عن شمسه؛ ادخلوا وغنّوا مع أشعته كل يوم بإسم: النور والحب والحياة والحرية!